دائماً كنتُ أُرددُ - ولازلتُ أفعل - أن حبسَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مساحةٍ ضيقة وبيدٍ فئةٍ مُعينةٍ وبطريقةٍ مُعينةٍ هو جريمةٌ بشعةٌ نرتكبها في حقِ المعروفِ وخدمةٌ عظيمةٌ نقدمها - مجاناً - للمُنكر ..!!!
فنحنُ - جميعاً - نستطيعُ أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر بكل زمانٍ ومكانٍ وبكل أسلوبٍ مُـتاحٍ , شريطة أن يكون المعروف الذي نريدُ الأمرَ بهِ هو مَعروفاً والمنكرُ الذي نريد أن ننكره هو مُنكر , ولاأجعل الأمر خاضعاً لتقييمي الشخصي ورؤيتي الضيقة للأمور , مُراعين في ذلك الحكمة في الأمر في المعروف والنهي عن المُنكر .., فنحنُ نستطيعُ تسخير كل شيء للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وقد نفعل ذلك عن طريق الرسم والفنون كالسينما والمسرح والموسيقى والغناء .. - يعتمد ذلك على موقفك من خط الفنون من ناحية التحليل أو التحريم وهذا رأيك وحريتك التي لايحقُ لأحدٍ أن يُجبرك على غيرها - ولايعني ذلك أن نُغفلَ المنابر والخطب والمحاضرات والندوات , ولكن ماذكرتُ سابقاً سيكونُ خطاً مُسانداً لخط الخطب والمحاضرات , بل وقد يصلُ إلى شريحة أكبر وأوسع لايستطيع خط الخُطب والمحاضرات الوصول إليهم ..!!
إلا أن الخط الثاني - خط الفنون - يحتاجُ لذكاء وقوة عرض وإتقان تقديم وبُعدٍ عن المُباشرة التي تصلح في خط الخُطب والمحاضرات , ويحتاج تقديم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على هيئة قيمته الأصلية , وأن أُمرر ماأريد تمريره دون أن يشعر به المُتلقي - وهذا مايفعله من تملكوا هذا الخط الآن عندما ابتعدنا عنه وحاربناه وأخلينا الساحة للحثالة الساقطين ليمتطوا صهوته فينقلوا أمراضهم لأولادنا وبناتنا على مرأى منا ومسمع ..!!! فنحن عندما حرمنا كل ذلك دفعنه دفعاً نحو الساحة الخلفية المُظلمة حيث لاتنمو إلا الأعشاب الضارة الفاسدة ..!!! - وبشكلٍ شخصي فلقد تعلمت من خط الخُطب والمحاضرات الكثير الكثير الذي ترك أثراً طيباً عميقاً في قلبي , كما تعلمتُ من خط الفنون كثيراً من الأمور الرائعة المميزة والتي غيرت الكثير من مفاهيمي وعززت الكثير من قيمي الإيجابية ..
فما زلتُ حتى هذه اللحظة أذكر الأثر الذي تركه مشهدٌ في فيلم لورانس العرب Lawrence of Arabia ) ) , في هذا المشهد يذهب جيش ( تي إي . لورانس ) في مسيرة صعبة لمدة عشرة أيام في الصحراء , وبينما الجنود قاب قوسين أو أدنى من الموت بسبب الجفاف , تلوح بركة مياه في الأفق , وبسعادة غامرة يقفزون فيها , وعندما قام لورانس بعد ذلك يَعدُ رجاله , اكتشف أن أحد الفتية من راكبي الجمال مفقود , وعثروا على الجمل بدون الفتى بالقرب من خلفية المعسكر وانتهوا إلى أن الغلام قد وقع من فوق الجمل عندما هبت عليهم العاصفة الرميلة .., صرخ لورانس في جنوده : يجب أن نعود ونعثر عليه , ولكن رجاله رفضوا العودة إلى العاصفة الرملية الرهيبة , ورجوه قائلين : أيها القائد , لقد أراد الله ألا يرجع الغلام معنا , هذا هو أجله الذي كتبه الله له , ولايجب علينا التدخل في ذلك ..!!
امتطى لورانس جمله في غضب , واتجه بنفسه عائداً إلى العاصفة الرملية في الصحراء , ووقف رجاله في مكانهم وهم يهزون رؤوسهم في أسى , وقالوا أثناء عودتهم إلى رفاهية الواحة : هاقد فقدنا القائد أيضاً ..!!
وبعد يومين ظهرت صورة ضبابية بفعل انعكاس الموجات الحرارية . وصرخ الرجال : إنه لورانس ..!! لقد وجد الغلام , وركضوا في تلهف لمساعدته , نزل لورانس من فوق الجمل , وسلمهم الغلام , الذي كان غائباً عن الوعي , ولكنه كان حياً وبصحة جيدة , نظر لورانس في عيونهم وقال بهمس صارم : تذكروا هذه المقولة : لايُكتَبُ إلا ماتقومون بكتابته ..!!!
بغض النظر عن سيرة لورانس العرب وموقف البعض منه ومايحوم حوله من أمور , وعن الفيلم وصحة أحداثه وهل الغرض منه تلميع لورانس أو غرض آخر , وبغض النظر عن الفهم السطحي لمقولته والذي قد يقود أصحاب هذا الفهم لساحة القضاء والقدر , إلا أن المشهد قدم لي قيمةً عظيمةً انطبعت عميقاً في قلبي .., أترك لكم - بعد إذنكم - متعة اكتشافها ..
أنا واثقٌ أن خط الفنون قد قدم لكل من شرفتني أو شرفني بقراءة هذا المقال قيمةً ما , فلو شاركتني أو شاركني بها - بأن يكتب لي المشهد أو الفيلم أو حتى اللوحة أو القصيدة .... - سأكون مُمتناً بحجم السماء ...
أ.أحمد النجار
مستشار نفسي واجتماعي
تويتر 3h_live@
