أحييك قارئي الكريم، وأستأذنك في تحية مميزة للكاتبة الجميلة الدكتورة عائشة صاحبُة كتابِ « حد.. الذاكرة». هذا الكتابُ الذي يشرفُني أنْ أقفَ في رحابِهِ مستشعرًةعبقَ الانتماءِ، وروحَ الوفاءِ، وألقَ العشقِ، للوطنِ، والوطنُ غالٍ وله علينا فضلٌ عظيمْ.
وقبلَ الشروعِ في تقديمِ قراءتي لكتابِ « حد.. الذاكرةُ» أود أبين **أن الكتابةُ ليست مجرد حروفٍ تشكلُ كلمةً، ولا كلماتٍ تملأُ صفحةً، وليست مجردَ قلمٍ وورقةٍ، ولا لوحةَ مفاتيحٍ أدخلتِ الكلَّ منصاتِ التواصلِ الاجتماعي وألبسته عباءاتٍ ليست له؛ ففي فضاءِ الفيسبوك (مثلًا) باتَ الكلُّ سياسيًّا، ومفتيًا، وشاعرًا، وطبيبًا ومحاميًا و.. و.. إلخ.
إنما الكتابةُ همٌّ يرسلُ فكرةً، وفكرةٌ تصنعُ بصمةً، وبصمةٌ تحملُ رسالةً. الكتابةُ مَلَكٌ يخطَفُكَ من وقتِكْ، ومن أهلِكْ، ومن كلِّ شأنِكْ، والكتابةُ مَلَكٌ ذو سلطةٍ محببةٍ إلى نفسِكْ، يحبسُ إحساسَكَ ويأسِرُ أنفاسَكَ، ولا ينفكُّ عنكَ حتى يتبلورَ همُّكَ فكرةً خلَّاقةً أمامَ عينِكْ وعيونِ مَنْ حولِكْ. وإني لأرى كتابَ «حد .. الذاكرةُ» إنجازًا فكريَّا رائدًا لصاحبِة همٍّ ورسالةْ.
أعلمُ أنني أخذتُ الكثيرَ من الوقتْ، وأدركُ تمامًا أن الإلمامَ بكلِّ ما اشتملَ عليه هذا الكتابُ القيمُ لا تكفيهِ السطور، بلْ يحتاجُ إلى صفحاتْ، فهناك فصولٌ أخرى كثيرةٌ وكلُّها تستلزمُ الوقفاتِ اللائقةَ بها؛
ولا أودُّ أن أبلغَ المساحةَ المتاحةَ للنشرِ قبلَ أن أستثمرَ بعضَهَا في الوقوفِ معَ كلام *دغدغَ مشاعري فاشرأبَّ له كَياني،
حيث تستهل المانع كتابها بالإهداء لوالدها محمد المانع -رحمه الله-؛ الذي بدأ مشواره دارساً الإنجليزية والأوردية في الهند مع والده الذي أراده أن يدرس الطب، إلا أنه فضل أن يُجيب نداء قلبه الذي قاده إلى العمل مع الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه-، خلال رحلة التوحيد الخالدة حينما التقاه في جدة عام 1926م مترجماً في ديوان الملك ثم مؤسس ورئيس قسم الترجمة في الديوان ليغادر بعد تسع سنوات، وليستقر عقبها في الساحل الشرقي، حينما ألقت أرامكو بعتادها وآلاتها وحفاراتها، ومن هناك نشأ تاجراً ماهراً وناجحاً ومسهماً في تنمية الوطن وتحسين واقع الحياة فيه
" حد الذاكرة" الكتاب هو نسيج هذه الحركة المكوكية بين الذكريات والوقائع، جاءت في إطار رحلة *طويلة، ممتدة لأكثر من ربع قرن، هي غربة قسرية إجبارية، لم تكن اختيارية. بل *بسب طلب *العلم وفي غمرة البوج تطرح " المؤلفة" سيرتها الحياتية عبر تلك الغربة التي تطارد بها الأوطان أبناءها وتلفظهم خارجها. لفظ "مدن"، وفي غمرة إستدعاء الذاكرة وإحساسها الحاد بالغربة وكأنها، تطرح على القارئ سؤالاً على قدر كبير من الأهمية، وهو تساؤل لا يغيب عن أي قارئ لهذه السيرة الحميمة: "أكان ينبغي أن تسير الأمور على النحو الذي سارت عليه؟ ألم يكن بالإمكان أن تكون أحسن؟" ولا تجيب *على هذا السؤال بشكل مباشر، لكنها تستخدم آلية استدعاء أخرى تسود العديد من مناطق استردادها للذاكرة، ونعني بها آلية استدعاءوقائع حدثت لها. وكأن الكاتبة تعلن عن ذاتها قارئة لنا سنوات الحياة *بحلوها ومرها، *لأننا حين نكتب عن الماضي فإننا نلملم الذكريات من هذه الأروقة ثم نعيد تشكيلها وتكوينها. في حياة المرء تحين لحظة يمكن أن نطلق عليها لحظة الوقفة مع الذات. لحظة تتكثف فيها المشاعر والخبرات والأفكار والأماني التي لم تبلغ في بؤرة واحدة تشع بالتوتر والأسئلة،.
وكتاب الدكتورة عائشة بنت محمد المانع (حد الذاكرة) الصادر حديثاً عن دار جداول للنشر، يستعرض في نحو 300 صفحة ملونة من القطع المتوسط سيرة و مسيرة امرأة سعودية نبتت بحديقة المرحلة التنموية الأولى في المملكة، وطبعت بصمة إنجازها عبر مراحل تعليمها وعملها وأعمالها، لتتوالى شواهد عدة تثبت جدارة الإسهام التنموي والإداري والتعليمي والتنظيمي للمانع في تعزيز دور وحضور المرأة السعودية بكثير من الموضوعية وقليل من الذاتية.
يقول ابن الجوزي: "إن التواريخ وذكر السِيَر راحة للقلب وجلاء للهم وتنبيه للعقل." وهذا القول الثاقب يعترف بأن لا فائدة جوهرية من التاريخ، وفائدته الوحيدة تكمن في المتعة الذهنية (تنبيه العقل) وفي المتعة النفسية (جلاء الهم وراحة القلب) فقط. فالتاريخ، على مر العصور والأزمنة، لم يبرهن قط عن أنه قدّم دروساً مفيدة فعلاً للناس بحيث يمكن اقتداؤها.
وهذا المزيج الممتع من الذكريات وهذه الجولة الدافئة في الأفكار والرجال والأزمنة لن يتمكنا من التملص من حنين موجع ودفء لذيذ في *بدايات تجربتها في *التعليم *وكيف عصفت رياح الغربه بها فألجاتهاإلى مصرثم لبنان، *ثم للولابات الامزيكية المتحده قحيث خاضت غمار هذه التجربة بكل اندفاع وحماسة،
إن أكثر المراحل إثارة وصخباً في حياة الدكتورة عائشة هي مرحلة ما بعد التخرج *وبداية العمل
يممت المانع وجهها شطر الأمام، مستشرفةً مستقبل البلاد، وحضارية النخبة النسائية في مجتمع التنامي المتسارع، مدونة فصولاً من حياة عصامية علها تُلهم وتُنير وتُشجع عقولاً نابهة من فلذات المستقبل؛ شاباً كان أو شابة، إذ ترى المانع أنه لم يُعد ثمة فرق، بعد أن قال الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان كلمتهما للتاريخ وللحضارة، والحق أن موقفهما سيغدو فيصلاً فائقاً وفارقاً في تاريخ المملكة العربية السعودية، من حيث دعم التنمية بمختلف مجالاتها، وتمكين الشباب، ومنح المرأة حقوقها كاملة غير منقوصة ومساندتها في شتى القطاعات، وتحديث الأنظمة وتقديم الوطن بصورته الحضارية الزاهية أمام العالم أجمع
.وللتواريخ الناصعة الحق في استنباتها وتوثيقها، كونها تكتظ بمشاهد وشواهد لا تنحصر في سيرة شخصيتها، ولا تقتصر على ذاتها، بل هي مسيرة إنسان في هذا الكيان، يعبّر عن مخاضات التحولات ومراحل التنمية، وإسهام المُبادرات من سيدات الوطن في إضاءة شموع الوعي، والاحتفاء بالإشراق في زمن لم يكن يكلّف نفسه عناء لعن الظلام..تذكر المانع أنها حين ولِدت كانت أمها قد فقدت قبل ولادتها ثلاثة أطفال، فنصحها بعض عُمّار الآمال بفأل الاسم فاختارت لها اسم (عائشة) لكي تعيش. تضيف: علمني أبي في سني عمري الأولى القراءة والكتابة وحفظ القرآن وبعض المعارف مثل الحساب واللغة الإنجليزية، إلى أن بلغت السادسة فابتعثني دون علمي ولا علم أمي وأخواتي وجدتي وأهلي إلى الإسكندرية للدراسة، وهناك أتممت دراستي إلى الثاني متوسط لأعود مضطرة على وقع خلافات السياسة بين المملكة ومصر، فواصلت ما تبقى من المتوسطة والثانوية ومطلع الجامعة في بيروت لأغادرها إلى أمريكا بعد اعتماد ابتعاثي من وزير المعارف، آنذاك، بأعجوبة ضمن قصة مشوقة، وهناك أتممت البكالوريوس والماجستير والدكتوراه عبر مراحل متقطعة عدت فيها إلى المملكة ثم استأنفت الدراسة لاحقاً، كما تشير إلى تجربتها كأول مديرة مدرسة في مدينة الدمام.
تروي الدكتورة المانع فصول تجربتها، قائلةً: انطلقت من العمل مديرة لمكتب الإشراف النسائي بالمنطقة الشرقية التابع لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية، آنذاك، وقبلها في أرامكو في الفصول الصيفية، ثم تجربتي في القطاع الخاص مع شريكات حين أسسنا عام 1985م شركة استهدفت ثلاثة مجالات نسائية؛ تدريب الفتيات على استخدام الحاسب الآلي الذي لم يكن معروفاً للكثيرين آنذاك، وتدريب اليد العاملة السعودية عبر مصنع نسائي بالكامل، وتطوير الفكر البحثي عبر مركز دراسات تقوده عقول نسائية مؤهلة منهجياً، فضلاً عن رسالتي للدكتوراه ومعايشتي لمجتمعي وإلمامي بشؤونه وشجونه، أقول هذه المحطات والحالات رسّخت لدي فكرة أن واقع المرأة يعاني من بؤس تنظيمي واجتماعي رهيب، ولهذا أمضيت زهرة عمري في سبيل إصلاح حالها وتمكينها والإسهام في تحسين واقعها، وعلى امتداد هذه الرحلة واجهت الكثير من الصراعات. لقد كرست جلَّ وقتي، ورصدت كل ما ملكت يدي من ثروة، في سبيل تحقيق رسالتي المتمثلة في دعم تعليم وعمل المرأة وتمكينها ومناصرة حقوقها، فأسست وقفاً تعليمياً للمحتاجين من الطالبات لمواصلة تحصيلهن العلمي العالي، وقبلها أسست كلية طبية، تحقيقاً لحلم والدي، وقد أردتُ لها أن تكون مثالاً يحتذى، في نشر ثقافة الوعي بأهمية المهن الصحية والتدريب المهني وتخريج أجيال من الفنيين الصحيين المحترفين، وسوف تصبح تلك الكلية جامعة للعلوم الطبية قريباً بحول الله.
كما تناولت المانع تجربتها المثيرة مع نساء البادية في رمال الربع الخالي، حينما أقامت هناك أياماً وليالي أثناء إعدادها لرسالة الدكتوراه
يقدم كتاب «حد الذاكرة» للدكتورة عائشة المانع رؤية عميقة حيال فهم أهم اللحظات التي أسهمت في بناء شخصيتها ومسيرتها الحافلة، كما أنه إضافة قيمة لمن يسعى للاستفادة من تجارب الآخرين في تحقيق أهدافهم الشخصية والمهنية.
المانع من مواليد مدينة الخبر، وحازت شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة كولورادو في الولايات المتحدة الأمريكية، وتعمل حالياً مديرة معهد المانع الصحي منذ عام 2000، والمديرة لمالتدريب المستمر لموظفي مجموعة مستشفيات المانع العامة
ونالت عضوية مجلس إدارة مجموعة مستشفيات المانع العامة ومديرة الخدمات المساندة للمجموعة منذ عام 1990 إلى اليوم، والمدير التنفيذي لشركة باحث للبحوث والعلوم الطبية، وعميدة كلية محمد المانع للعلوم الطبية.
وهي نائب رئيس لجنة المعاهد الصحية الأهلية بالمملكة بالغرفة التجارية بالرياض من عام 2007، وعضو مجلس إدارة منتدى سيدات الأعمال بالمنطقة الشرقية من عام 2000. ورئيسة اللجنة النسائية الأولى بالغرفة التجارية بالمنطقة الشرقية عام 2004، وعملت مديرة إشراف لدى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية بالمنطقة الشرقية من عام 1973 إلى عام 1985، ونشرت العديد من الدراسات والبحوث؛ منها رسالة الدكتوراه بعنوان (الخطة الخمسية وأثرها على وضع المرأة بالمملكة)، دراسة عن مراكز الخدمات الصحية الأولية بالمنطقة الشرقية لمنظمة اليونيسيف التابعة للأمم المتحدة، ودراسة بحثية عن فرص عمل المرأة في الشركات الدوائية، ودراسة اقتصادية عن واقع نشاط سيدات الأعمال بمدينة الرياض عام 1986، ومؤلفة كتاب «المرأة السعودية بين الماضي والمستقبل» عام 2004.
إذا كان لكل أمة أن تزدهي بكتابها وشعرائها، وأن تباهي بعباقرتها وفلاسفتها ومفكريها، فقد حق لنا نحن أبناء الأمة العربية أن نضع *الدكتورة عايشة المانع
في رأس مفاخرنا الاجتماعية *والأدبية في هذا العصر.
إنها *مدرسة إنسانية فريدة ومذهب مضيء من أنبل مذاهب الفكر الإنساني
وبالفكر المتزن والروح الصافية. *تدوّن هذه المذكرات العجيبة بأسلوب يفعل بالقارئ فعل السحر، ويفتح له آفاقاً بعيدة وعوالم جديدة ما كان تخطر له في بال من قبل.
مذكرات تنضح بالتفكير العميق، وتعبر عن خبرة المؤلفةوآرائها في الحياة والناس والأشياء
لذايُعَد هذا المؤلَف نُقطة انطلاق مفيدة جدا إلى المعرفة المتنامية بالتاريخ والذاكرة الجماعية. ويمثل لمؤرخي النهضة تحديا للربط ما بين الروايات التاريخية للركيزة الاختزالية والذاكرة الفردية
ما إن تقرآحتى تشعر بأن عقارب الساعة عادت بك إلى ماض ولى يروي تاريخ التعليم في هذا البلد منذ *بدايات
واثبتت المؤلفة أنَّ ذاكراتنا لايمكن أن تمحو إحساسنا بالزمان والمكان الحاضريْن بأن تَعْرِض علينا حياتنا الماضية. وفي عصر رقميّ كهذا الذي نعيش فيه، نجد أنفسنا غارِقِين في أرشيف مهول من البيانات لا يَصْبِغ كل تجربة من تجاربنا اليومية بألوانه وحسب، بل ويمدنا بالمعلومات المُتعلقة بأي شيء ربما طواه النسيان، فيكسر بذلك التمايز ما بين ذكريات الفرد والذكريات الجماعية للبشر.
، وهنا أهتفُ بكلِّ جوارحي بتحيةٍ تليقُ بالكاتبِةالوفيّةالدكتورة عائشة، وأشيرُ في عُجالةٍ إلى مكانةِالوافيةِفي المجتمع، والوارفةِ بعطائها، والعاليةِ بكرمها؛ فهكذا كانت.. ومازالت
وأختمُ هنا بأنني اقتنيتُ كتابًا قيمًا مستوفيًا أساسياتِ الكتابةِ، ومُدَعَّمًا بالصور الدالّة، وموثَّقًا بالمراجع ِوالمصادرِ المختلفة، ومشتملًا على معانٍ تفسيريةٍ للكثيرِ منَ المفرداتِ السائدةِ، وزاخرًا بما احتواهُ من معلوماتٍ تاريخيةٍ أراها تمثلُ إضافةً ثريةً للمكتبةِ العربيةِ وللباحثينَ ولطلبةِ العلم.
وهنا أجددُ التحيةَ مجللةً بأعذبِ التهاني للدكتورة عائشة **-كتابِهِا حد الذاكرةُ سائلة اللهَ سبحانه وتعالى *
.لها السداد والتوفيق