• ×

09:51 مساءً , الخميس 9 شوال 1445 / 18 أبريل 2024

المرأة المؤلفة في الحضارة العربية والإسلامية

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
بث - الدكتورة - شيماء فرغلي - باحثة في التاريخ والحضارة الإسلامية جامعة القاهرة 
حث الإسلام على طلب العلم، ولم يخص في ذلك الرجل دون المرأة بل حث كليهما على تحصيل العلوم والمعارف من مظانها المتنوعة. ولذلك لم تتوانى المرأة المسلمة عن المشاركة في الحياة العلمية بجميع روافدها العلمية والأدبية والثقافية. ويُعد تأليف الكتب أحد أهم المعالم المعبرة عن هذه الحقيقة.
وإذا ذكرنا المرأة المؤلفة سيتبادر إلى الذهن بعض النساء المؤلفات الشهيرات، أمثال: زينب فواز، وعائشة التيمورية، وباحثة البادية، ومي زيادة، وبنت الشاطئ، وسهير القلماوي، وسيدة إسماعيل الكاشف... وغيرهن. إلا أنهن جميعًا يقعن في دائرة التاريخ الحديث والمعاصر وقد يتصور البعض خلو ساحة التأليف في الحضارة العربية الإسلامية في العصور الوسطى من إسهامات المرأة إلا أن القارئ في كتب التراجم قديمًا وحديثًا يتحقق من وجود إسهامات تأليفية حقيقية للمرأة المؤلفة في شتى العلوم والآداب والفنون، وما أحاول القيام به هنا هو إلقاء الضوء على هذه الحقيقة التي يتجاهلها الكثيرون.
وأولى الملاحظات التي يمكن للباحث التوصل إليها أن المجال الذي برعت النساء في التأليف فيه هو مجال العلوم الإنسانية، فنجد أن أغلب النساء الوارد ذكرهن في الكتب التي جمعت تراجم النساء مثل كتاب (أعلام النساء في عالمي العرب والإسلام) لعمر رضا كحالة ـ كن محدثات للحديث النبوي الشريف، ولذلك تمثلت أكثر مؤلفات النساء في التاريخ الإسلامي حول الحديث الشريف. ومنهن: بيبي بنت عبد الصمد بن علي الهرثمية التي عاشت في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، وكان عندها جزء من حديث ابن أبي شريح تفردت به وسمعه منها الكثيرون. ومنهن أيضًا: مريم بنت عبد الرحمن بن أحمد الحنبلية (ت758هـ/1357م)، ولها مؤلف في علم الحديث. وتوجد أيضًا: فيروزة بنت المظفر لها كتاب (الأربعين: رواية الصالحات عن الصالحين).
وهذا لم يمنع وجود موضوعات أخرى مثل العلوم الفقهية، ومن الفقيهات المؤلفات: دهماء بنت يحيى بن المرتضي (ت837هـ/1433م) وهي عالمة فاضلة أخذت العلم عن أخيها، ولها مؤلفات أوردها الإمام الشوكاني في البدر الطالع وهي: (شرح الأزهار في فقه الأئمة الأخيار)، و(شرح منظومة الكوفي) في الفقه والفرائض، وكان لدهماء أيضًا مشاركة في التأليف في علم الكلام، وذلك بمؤلفها (الجواهر). ومنهن أيضًا: صفية بنت المرتضي الحسنية اليمنية (ت771هـ/1370م)، وذكرت المصادر أن لها مؤلفات، من بينها كتابها (الجواب الوجيز على صاحب التجويز).
وأيضًا علوم النحو واللغة، وممن ذكرت المصادر أن لهن إسهام فيهما بنت الكُنَيْري.
أما علم التاريخ، فيبرز في ذلك كتاب (تاريخ بني الطبري) الذي ألفته عائشة بنت عبد الله بن أحمد الطبري (المتوفاة بعد سنة760هـ/1359م).
وبجانب الشواهد السابقة للمؤلفات من النساء هناك أيضًا عائشة بنت يوسف الباعونية (ت922هـ/1516م) ومن مؤلفاتها المتعددة: (الإشارات الخفية في المنازل العلية)، و(الدر الغائص في بحر المعجزات والخصائص)، و(صلات السلام في فضل الصلاة والسلام)، و(الفتح المبين في مدح الأمين)، و(قصيدة في البديع)، و(الملامح الشريفة والآثار المنيفة).
ويُلاحظ أن المصادر كثيرًا ما تسكت عن ذكر مؤلفات النساء مكتفية بأن لهذه المرأة أو تلك مؤلفات دون أن تفصح عن عناوين هذه المؤلفات، ومن الشواهد المعبرة عن ذلك الفقيهة العالمة الدمشقية أمة اللطيف بنت الناصح بن الحنبلي (ت653هـ/1255م) إذ اكتفت مصادر ترجمتها بالقول إن "لها تصانيف ومجموعات" دون أن تُفصح تلك المصادر عن عنوان واحد من هذه المؤلفات.
وكان لعامل التنشئة المجتمعية للمرأة أثره الواضح في تكوينها العلمي والثقافي؛ كأن يكون والدها أو زوجها عالمًا فتتوافر أسباب تحصيل العلم والتأليف فيه، فنجد على سبيل المثال العالمة البغدادية الشهيرة شهدة بنت أحمد الدينورية (ت547هـ/1152م) إذ كان والدها من مشاهير بغداد ومحدثيها، وكانت هي عالمة عابدة وصارت مسندة العراق في وقتها وروى عنها وسمع منها الكثيرون. وكذلك الشاعرة تقية بنت غيث بن علي الأرمنازي المولودة في دمشق سنة 505هـ/1111م، والمتوفاة بالإسكندرية سنة 579هـ/1184م، نشأت في وسط علمي هيأ لها أسباب تحصيل المعرفة والتأليف فيها؛ إذ كان أبوها أحد علماء عصره. وقد برعت هي في نظم القصائد البديعة، ولها ديوان صغير. وفي القرن السادس الهجري أيضًا توجد فاطمة بنت محمد بن أحمد السمرقندي التي تفقهت في مدينة حلب على أبيها العالم الفقيه وحفظت مؤلفه (تحفة الفقهاء)، هذا بالإضافة إلى أنها تزوجت أيضًا من أبي بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني، وهو أحد علماء عصره الكبار، ويُلقب بملك العلماء صاحب كتاب (بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع)، ونتيجة لذلك الوضع الاجتماعي برعت فاطمة السمرقندية، وألفت المؤلفات العديدة في الفقه والحديث على نحو ما تذكر زينب فواز في كتابها (الدر المنثور في طبقات ربات الخدور).
كما كان لعلو الطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها المرأة أثره في توافر المناخ المناسب لتكوين شخصية المرأة العلمية، كما في حالة زيب النساء بنت عالمكير الهندية (ت1113هـ/1701م)، التي كان والدها سادس أباطرة المغول في الهند، ومن أسباب انشغالها بالعلم حب والدها للعلم والعلماء، ومن أبرز إسهاماتها التأليفية ديوان شعر، وتفسير للقرآن عنوانه (زيب التفاسير). وكذلك الفقيهة العالمة والأديبة البارعة خناثة بنت بكار التي كانت مدبرة زوجها السلطان المغربي إسماعيل العلوي، وكانت لها كتابة على (الإصابة في معرفة الصحابة) لابن حجر العسقلاني، وتوفيت بمدينة فاس سنة 1159هـ/1746م.
وفي مقابل ذلك زاولت بعض شيخات العلم في العصر الإسلامي إحدى المهن لتوفر نفقات معيشتها، ومنهن: عائشة بنت محمد بن مسلم الحرانية (ت736هـ/1336م)، التي كانت تتكسب بالخياطة، وحدثت بالكثير وسمع ابن بطوطة عليها في جامع بني أمية بدمشق.
وهنا يجب التأكيد على حقيقة ألمح لها السياق السابق، وهي أنه لم تخل مدينة من مدن العالم الإسلامي من وجود نساء مؤلفات سواء كان ذلك في شرق العالم الإسلامي أو في غربه. ويُلاحظ أن بعض النساء لم تكتف بطلب العلم في موطنها، بل رحلت أيضًا إلى عواصم الثقافة العربية والإسلامية في تلك الفترة كبغداد ودمشق والشام وحلب والإسكندرية والقاهرة... إلخ.
واهتم القدماء بوضع مؤلفات خاصة عن النساء المؤلفات خاصة الشاعرات منهن أو المحدثات أي عالمات الحديث الشريف. ومن ذلك كتاب العالم المعروف متعدد الجوانب العلمية جلال الدين عبد الرحمن السيوطي الذي سماه (نزهة الجلساء في أشعار النساء)، وقد طُبع عدة طبعات.
ولا يقتصر الأمر على القدماء وحدهم بل
المحدثين أيضًا، وفي ذلك نذكر بالتحية الجهد الكبير الذي بذله البعض في تتبع واستقصاء النساء المؤلفات عبر عصور الحضارة الإسلامية. ومنهم: الأستاذ عبده مهنا، الذي قام بعمل معجم مهم جدًا لشواعر النساء، جعل عنوانه: (معجم النساء الشاعرات في الجاهلية والإسلام) الصادر في بيروت. وأيضًا الأستاذ محمد خير رمضان يوسف الذي أفرد دراسة عن النساء المؤلفات نشرها أولًا في مجلة (عالم الكتب) السعودية، ثم استدرك وأضاف عليها ونشرها في كتيب صغير جمع فيه تراجم موجزة لبعض النساء المؤلفات، جاعلًا عنوانه (المؤلفات من النساء ومؤلفاتهن في التاريخ الإسلامي).
غير أنه يُلاحظ على جهده الذي أقدره ثلاث ملاحظات أساسية: أولها – ما ذكره في أنه اعتبر كل المشيخات النسائية مؤلفات للمرأة رغم أن تلك المشيخات تتمايز إلى قسمين أولهما مشيخات قامت بعض النساء بتأليفها فهي إذن مؤلفات لهن، ومشيخات أخرى لنساء قام بعض العلماء بتخريجها لهن، والقسم الثاني في ذلك يعد مؤلفات لرجال وليس لنساء.
والملاحظة الثانية: تتمثل في غياب الدراسة التاريخية الخاصة بالمؤلفات القائمة على التوزيعات الزمانية والمكانية لهن، وكذلك محاولة التوصل إلى الأسباب التي تجعل زمنًا ما أو مكان ما يتميز بكثرة المؤلفات عن غيره، وكذلك حجم الأثر العلمي والثقافي الذي تركته هؤلاء النساء في العلماء الآخرين أو في المجال العلمي الذي برعوا فيه وكتبوا وصنفوا في فروعه المختلفة.
والملاحظة الثالثة: أنه من المهم جدًا أن نهتم عند الحديث عن المرأة المؤلفة بالكتب التي ألفتها النساء، وذلك بإفاضة الحديث عن الوجود الفعلي لمؤلفات النساء سواء المطبوع منها أولًا، أو المخطوط الذي يحتاج إلى تحقيق ونشر ثانيًا، أو ما هو في حكم المفقود الذي لم نعرف عنوانه إلا في الكتب القديمة ثالثًا.
جميع هذه الأمور وغيرها تحتاج إلى اهتمام خاص من قبل الباحثين والدارسين وذلك للحكم على أهمية مشاركة المرأة في حركة التأليف في الحضارة العربية والإسلامية، بل إن المؤلفات الباقية للنساء العربيات والمسلمات قد يحتاج الواحد منها إلى دراسات أو بحوث، ويكفينا في هذه المقالة الدلالة على أن المرأة لم تكن غائبة عن ذلك المجال العلمي في الحضارة العربية والإسلامية... وأنها كانت مؤلفة.

 0  0  
التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +4 ساعات. الوقت الآن هو 09:51 مساءً الخميس 9 شوال 1445 / 18 أبريل 2024.